لا يجد الانسان متسعًا من الوقت للتفكير حول ما يحدث حوله من أمور.
(1)
بينما كان يفكر في إجازته الطويلة التي تستمر مدة ثلاثة أسابيع بعد فصلٍ دراسيّ شاقٍ في جامعته. قرر بعد ترددٍ ، التفرّغَ لمزاولة نشاطاته، مهاراته وميوله التي توقّف عنها في فترة دراسته بسبب اشتداد الضغوطات..
ذاك المَعْلَم الثقافي الأهلي القريب منه في بلدته والذي رسم في خيالاته خططًا ورؤى لاستغلاله..
يحدِثُ أن يرتاده الآنَ يوميًا ..!
لعلّه يستفيد من تلك الخدمات البسيطة التي يقدمها ..
والتي بالكاد ترضي عددا من مرتاديه..!
مَركزٌ ثقافيّ، فيه من يردِم طموحاته بفكرٍ عقيم..
وفي جانبٍ آخر ..هناك.. البعض من يساندها ..!
جلس جمالُ بأريحيّة في ذلك الكرسي الجلدي... ليسرح بخيالاته إلى عالَمٍ ثانٍ مختلف...
بدأت مواقفَ محفورة في ذاكرته بالبوح من جديد .. كان يظن أنها اندثرت ..
إنَّهُ البوح مجدِّدًّا عهده..! ها هو الآن يلسعه بقذارته...
تذكّرَ جمال عندما كان يجري مكالمة هاتفيه مع أحد الإداريين في ذلك المَعلَم .. الشخص الذي كان يحاول عرقلة عرض مسرحيتهم التي حجزوا قاعة المسرح من أجلها...
هَمْهَم منزعجا عندما تذكّر التصميمَ الداخليّ الرديء للقاعة..
لم تكن كما كان يتوقعها الجيل الحاليّ ويطمح إليها لتحتضن حماسهم .. لعلّها تُشفي غليل حماسهم واشتياقهم لتحقيق بعضَ الانجازات التي يُطمح في إهدائها لبلدتهم ..!
حاول جاهدا ، ولكن لم يتمكن حينها من تذكّر عدد الأعمدة الضخمة التي تعيق مشاهدة خشبة المسرح الصغيرة من مختلف الزوايا في تلك القاعة..!
لم يكتفِ أن يكون هو ثروة لبلدته ..
ليس تقليلًا من دور التنمية البشرية .. كبشرٍ.. بل كفِكر جامد..!
لا بأس ..
فقد خطط هو ومن معه لتلك الفعالية .. ونشروا الاعلانات..
ولا مجال للتراجع ...
القاعة رغم رداءتها إلا أنها ستفي بالغرض وأكثر..
لم يشتاط جمالُ غضبًا من موضوع العرقلة قدر انزعاجه من الأسلوب الذي يمتلكه ذلك الشخص "الاداري"..
استوعب حينها كم هو مُقزِّزٌ أن يكون الشخص إداريًا ولكنه بذيء الأسلوب..!
ولك أن تتخيل عزيزي أن الكثيرَ من الناس تتجاهله..
كم تمنى جمال سماع نبأ استقالته .. أو خبرًا مفرحًا آخر... ولا يزال يحلم... ويحلم.. ويحلم...
فيدمن الحلم ..
كان يحدِث ذلك قبل موعد العرض بأيام قلائل...
في الوقت الذي تفتقر إليه بلدته من حسّ فني وعمل مسرحي..
فكَّرَ قليلًا .. " آاه صحيح وجدتها " ..
خطَّطَ ..
وبعد التوصل للعقل المدبر وسياسته المستنيرة.. خرج من المأزق بحكمته وكأن شيء لم يحدث..!
لم يألُ رئيس مجلس إدارة مركز بلدته الثقافي جهدًا في مساندة شباب بلدته.. و الذين هم أبنائه..!
كم هم رائعون مثل هكذا أُناس جعلوا جلّ اهتمامهم بالشباب.. وليس ردْمهم ..
جمال ..
كان يقدّس بلدته .. لدرجة أنه.. يترقّب النور لها.!!!
في الوقت الذي يوجد.. هناك .. من ينشر الظلام..!!
أعادته ذاكرته لأحداث أخرى مشابهة..
استعادَ ذاكرته .. فتنهَّدَ..
قليلٌ من الارهاق..
همّ مُغادِرًا ..
سلَّم على أستاذ أشرف قبل مغادرته.. كان أشرفُ طيّبًا ورائعًا .. متفهمًا للجميع..!
غادَرَ جمالُ معانِقًا أفكارَه .. باحثًا عن سبيلٍ لتحقيق أحلامهِ في بلدته ..!
كان يؤمن تمامًا أن العيش من أجل فِكرة ، أفضل من التفكير في المادة فقط.. ستفتح لها سماوات رحبة..
فبالفِكرة، سيحيا جيلٌ.. و ستُبنَى دَولة..
وبالمادة، ستموتُ أجيال.. وتندثر المعالم..!
كم هو مجزِع أن تجد عدد من يؤمنون بالمادة - فقط - فاق حد الألم ..!
بالرغم من سوء التفاهم الإداري فيه والذي خسرت احدى الفرق المنتسبة له عددا من حجوزات القاعات فيه.. وأشياء مادية أيضًا.. والكثير من أشياءٍ غير ملموسة أخرى...
ربما .. لأنه لم يفتتَح رسميّا بعد.!
و ربما تغيير منحنى المركز ليصبِح تجاريًا نوعًا ما ، له الأثر السلبي الذي طغى عليه...
ورّبما أثرٌ إيجابي .. ينير بعض الأهداف الضبابية ...
ولا داعي التطرّق عن بعض الاستقالات ..!
(3)
حسنًا ..
كان كثيرًا ما يتساءَل قبل نومه..
المركز الثقافي ذاكَ .. متى سَيُزال الغشاء عن القليل من كينونته التجارية ..?
وأيضًا ..
ما مستقبله الذي سيؤول إليه عما قريب..!
يتثاءب مُرهقًا ليغطَّ في نومٍ عميق..
يستيقظ في الصباح ..
يسلك طريقه لذات المكان لعلّ الأمور تغيّرت..!
ليجد أنهُ .. " لا جديد تحت الشمس" ..
يرنّ هاتفه مستقبلا عددا من طلبات تصميم شعارات وبعض الملصقات الإعلانية التي لم يتخذها تجارة يستغل بها الآخرين..
كان معروفًا بين عدد من الأوساط المحلية والخليجية عن مدى علاقته بالابداع و التصميم..!
فقد كانت بعض الأعمال التي قام بإنجازها لجهات حكوميّة في بلده ولعدد من الشركات المحلية والملتقيات والفرق التطوعية .. وفعاليات كثيرة أخرى..
لم يبالِ بأمر ذلك الملصّق الاعلاني الذي أهداه لمسيرة الولاء والعرفان التي نظمها أهالي بلدته وأزيلت حقوقه في غفلة منه..
كان الأمر عاديًا جدًّا..
الثقة بالنفس، كثيرًا ما تخلق الأضداد ..!
(4)
ذات صباحٍ ،
وخلال فترة الملتقى التطوعي الذي نظمه فريقه الطامح لدفع مسيرة بلدته بل و وطنه الذي ينتمي إليه..
دخل المكتبة ليجتمع برفاقه بعد انتهاء فترة تدريسه في برنامج التصميم الجرافيكي...
هاجمه فُضولٌ قاتل لتلك الأوراق المطوية الموجودة على رفوف مكتبة المركز الثقافي..
لم تبدو الأوراق عادية..
ازداد ضجيج الفضول في داخله..
مدَّ يدَه ليلتقط إحداهن بكل بساطة وهدوء...
التفت باسِما .. وكأنّ شيءٌ لم يحدث..
ثم أدار ظهره مغادرًا .. فقد كانت الساعة تشير للدقيقة الخمسين قبل الساعة الواحدة ظهرًا .. وقت صلاة الظهر ..
لا يزاله حديثه يتردد صداه ..
ذات ليلة فصح لي عن مدى شغفه وانتظاره طرح مسابقة لتصميم هوية ذلك المركز ..
هكذا اعتادت معظم الجهات المحلية والدولية اجراءه...
تلك الجهات التي تُعطي الشباب حقهم لمزاولة أنشطتهم بثقةٍ..
نعم انها الثقة التي تفتقر إليها بلداننا العربية.. وبلدي أيضًا..
كان يوقن أنّ بلدته تحتضن المبدعين والمصممين الثقة .. الذي فشلت كثير من الجهات في احتضانهم..
لم يدرِ ما تخبئه تلك الورقة التي أخذها من رفوف المكتبة..
ولم يكن يعلم حينها عن الثقة المجردة..
بعد أن كانت الجنسيات الآسيوية تضحك على عقول المواطنين بعملٍ بائس لـ "تمشية حال" المناسبات وغيرها .. صارت الاتجاهات إلى الابداع المحلي ..
النتاجات مشرفة جدًا ..! ولا زلنا نفتخر..
يتذكر جمال العديد من أعمال ذلك الباكستاني الجنسية والذي كان يعمل في محل الطباعة الموجود في منتصف بلدته..
حينها .. يضحك بصوتٍ ساخر ...!
لم يفرّق الكثيرون في بلده بين المصمم ومحلات الطباعة...
ليس لأن الجهل سائد.. بل ربما توفيرًا للمال...
ثم تجريد العمل من مكوناته الأساسية.. وجودته...
في الوقت الذي كان ينتظر فيه طرح موضوع تصميم هويّةٍ للمركز الثقافي ، كان يتساءل في نفسه عن الوقت الذي سيحين لبتشرف بإنجاز عمل يُعطى فيه حقه كمصمم....
لم يكن يستوعب حينها.. أن للمركز شعار قد أُعتُمِدَ...
! ! !
فور وصولِه بيته الكائِن في الجانب الشرقيّ من بلدته..
قام بفتحِ الورقة ليشبع فضوله الذي أوْشَكَ أن يُبلِعه نوبة عذاب..
"دعوة" .. "مركز".. "ثقافي" .. "افتتاح"...
انصدم لذلك الشيء الغريب .. شعار غريب...
صرخ لا إرايًا ... ما هذا? ??!
هل يعقل أن يكون للمركزِ كل هذه الحكايا?!!
قلب الورقة في كلِّ الاتجاهات لعله يجد تفاصيلَ أكثر..
بعد ربعِ ساعة.. تقريبًا..
استوعب أن ما يحدث هو واقِعا.. وعليه التعايش معه بحذر...
تذكّر تلك اللوحات الكبيرة عند الدوار الكبير في بداية بلدته والآخر في منتصفه ....
تحمل نفس الخبر...
"جمال .. تعال ننتظرك للغدا" ..
حينها قطع انتباهه ..
ترك الورقة في صالة المنزل... متجهًا إلى المطبخ..
كانت وجبة غداء لذيذة.. مكبوس دجاج على الفرن ..مع قليل من الفلفل الحار ... هي التي يفضلها كثيرًا...
ناقشَ جمال والده حول الموضوع...
والذي اندهشَ أيضًا..
راجع الورقة من جديد ليدقق في الشعار الدائري من جميع النواحي...
كان يؤمن أن الشعار هو الهوية...
وأن البساطة نصف الروعة والجمال..
دائرة حليبية اللون.. بداخلها كتاب برتقالي فاقع إلى بني اللون ، مرسومًا .. مفتوح على صفحتين.. في الورقة التي على الجانب اليمين شيء أخضر غير واضحِ الملامح .. لم يستطع تمييز دلالتها..
وفي الورقة اليسرى.. شكل جزء علوي من قلعة بيضاء...
وفي أسفل الكتاب شعلة نار تحتها عصا وكأنها تلك التي تستعمل للطقوس التعبدية عند بعض الديانات ... لونها متدرّج من الأسود إلى الأصفر..
تلك الدائرة يحيط تلك الخرفة الخضراء بها مثل ما يشير لل"يونيسكو" ..
جمالُ مدمنٌ في تصميم الشعارات..
كان يوقن أن لكل نقطة في الشعار من المفترض أن يكون لها دﻻلة معينة..
وتكرارها.. يضيع الاتزان ويشتت قوّته.. !
رموز متكررة .. دلالات البعض منها ضبابية والأخرى مجردة ...
شعلة نار... كتاب.. زخرفة.. قلعة.. أوراق..
هو شعار معتمد لمركز ثقافي .. !
ماذا لو كان قد سُمِح بتجربة المصممين للتنافس في تقديم عمل أفضل ليستمد المركز منه بعضًا من قوته... ?!!
لملم جمالُ نفسه.. و احتفظ بالورقة...
(6)
"جمال.. جماااال تعال نتريّق ننتظرك ساكبيلّك شاهي عن يبرد " ..
نهضَ متوترًا .. يبحث عن هاتفه المحمول ليجده ساقطًا على الأرض.. حملهُ في يده .. ينظر للساعة من جهازه النوت2.. التي تشير إلى إمضائه وقتًا كثيرا في خيالاته في ذلك الكرسي ... عرك عينيه قليلا ثم مد يديه لبعض النشاط مدة الدقيقة ونصف..
كان لا يزال جالسًا في الكرسي الجلدي... نهض ليشارك عائلته في الافطار ولو بكوبٍ من الشاي...
ترك مكانه وهو لا يزال يفكّر فيما تردد في خياله طيلة ذلك الصباح.. اكتشف انه نام تعبًا في الكرسي من بعد صلاة الفجر...
#انتهى ..